ما حكم سماع الغناء ؟




الغَناء بالفتح والمد : النفع، وبالكسر والمد : السَّماع، وبالكسر والقصر : اليسار، تقول منه غَنِي بالكسر غِنىً، فهو غَنِيٌّ و تَغَنَّى أيضا، أي اسْتَغْنَى، و تَغانَوْا : استغنى بعضهم عن بعض، و المَغْنَى مقصور، واحد المَغَانِي، وهي المواضع التي كان بها أهلوها، ويقال: غَنَّى فلانٌ يُغَنِّي أُغْنِيَّة، و تَغَنَّى بأُغْنِيَّة حَسَنة، وجمعها الأَغاني (لسان العرب).
والمراد من السؤال طبعًا الذي هو مد الصوت بالكلام، والغناء بدون موسيقى لا شيء فيه طالما أن كلامه في إطار الشرع، ويستحب إن كان كلام الغناء في إطار الثناء على الله، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو للحماسة والشجاعة، وحب الأوطان، وما عدا ذلك فيكون من قبيل المباح طالما أن كلاماته لا تتنافى مع الشرع ولا تعارضه.
والغناء في بعض الأوقات أمرًا متعارفا عليه بين المسلمين، وذلك في المناسبات السارة؛ لإشاعة السرور، وترويح النفوس وذلك : كأيام العيد، والعرس، وقدوم الغائب، وفي وقت الوليمة، والعقيقة، وعند ولادة المولود.
ودل على هذه الإباحة أدلة كثيرة من السنة النبوية الصحيحة نذكر منها : 
تروي السيـدة عائشـة رضي الله عنها : أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصـار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يا عائشة ما كان معكم لهو ؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو»( أخرجه البخاري).
وقال ابن عباس : زوجت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أهديتم الفتاة ؟ قالوا: نعم. قال: أرسلتم معها من يغني؟ قالت: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الأنصار قوم فيهم غزل، فلو بعثتم معها من يقول : أتيناكم أتيناكم، فحيانا وحياكم»( رواه ابن ماجه ، ورواه أحمد).
وعن عائشة : أن أبا بكر رضى الله عنه دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى - في عيد الأضحى- تغنيان وتضربان، والنبي صلى الله عليه وسلم متغش بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه، وقال: «دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد»( أخرجه البخاري ، ومسلم).
وعن عائشة أيضا قالت : كان في حجري جارية من الأنصار، فزوجتها، قالت : فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرسها، فلم يسمع غناء، ولا لعبًا، فقال يا عائشة : «هل غنيتم عليها، أو لا تغنون عليها؟»، ثم قال : « إن هذا الحي من الأنصار يحبون الغناء »( أخرجه ابن حبان).
وعن عامر بن سعد أنه قال : كنت مع ثابت بن وديعة، وقرظة بن كعب رضى الله عنه في عرس غناء، فسمعت صوتًا، فقلت : ألا تسمعان؟ فقالا : إنه رخص في الغناء في العرس (رواه الحاكم ، وقال الحاكم إنه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأبو شيبة ، ولفظة غناء لأبي شيبة، وحديث الحاكم في عرس فقط دون غناء).
وعن أم سلمة قالت: دخلت علينا جارية لحسان بن ثابت-يوم فطر- ناشرة شعرها،معها دف، تغني فزجرتها أم سلمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«دعيها يا أم سلمة، فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا »( مجمع الزوائد).
وعن رُبيع بنت معوذ بن عفراء قالت : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل علي صبيحة بني بي، فجلس على فراشي كمجلسك مني(أي خالد بن ذكوان، وهو الذي يروي الحديث عنها)، فجعلت جويريات يضربن بدف لهن، ويندبن: من قتل من آبائي يوم بدر، إلى أن قالت إحداهن : وفينا نبي يعلم ما في الغد، فقال : « دعي هذه، وقولي الذي كنت تقولين »( أخرجه البخاري ، وأبو داود ، واللفظ لأبي داود).
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا، فسمعنا لغطًا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا حبشية تزف والصبيان حولها، فقال : يا عائشة تعالي فانظري. فجئت فوضعت ذقني على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال لي: «أما شبعت» فجعلت أقول : لا؛ لأنظر منزلتي عنده، إذ طلع عمر فارفض الناس عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إني لأنظر إلى شياطين الجن والإنس قد فروا من عمر» قالت : فرجعت»( رواه النسائي).
ومما ورد عن الصحابة أيضا ما رواه زيد بن أسلم، عن أبيه : سمع عمر رجلا يتغنى بفلاة من الأرض، فقال : الغناء من زاد الراكب (رواه البيهقي). 
وهناك من ذهب إلى حرمة الغناء بدون آلات العزف، ولكن الدليل لا يسعفهم بهذا، فقد قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب [الأحكام]: لم يصح في التحريم شيء، وكذا قال الغزالي، وابن النحوي في [العمدة]، وقال: ابن طاهر: لم يصح منها حرف واحد، وقال ابن حزم : كل ما رُوي فيها باطل وموضوع » (المحلي لابن حزم).
لا شيء في الغناء إلا أنه من طيبات الدنيا التي تستلذها الأنفس، وتستطيبها العقول، وتستحسنها الِفطَر، وتشتهيها الأسماع، فهو لذة الأذن، كما أن الطعام الهنيء لذة المعدة، والمنظر الجميل لذة العين، والرائحة الذكية لذة الشم.
والإسلام دين الجمال، ودين الطمأنينة، ولم يبق في الإسلام شيء طيب، أي تستطيبه الأنفس والعقول السليمة إلا أحله الله، رحمة بهذه الأمة لعموم رسالتها وخلودها. قال سبحانه تعالي : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } [المائدة: 4]، ولم يبح الله لواحد من الناس أن يحرم على نفسه أو على غيره شيئًا من الطيبات مما رزق الله، مهما يكن صلاح نيته أو ابتغاء وجه الله فيه، فإن التحليل والتحريم من سلطـة الله وحده، وليس من شأن عباده، قال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] . 
ولو تأملنا لوجدنا حب الغناء، والطرب للصوت الحسن يكاد يكون غريزة إنسانية وفطرة بشرية، حتى إننا لنشاهد الصبي الرضيع في مهده يسكته الصوت الطيب عن بكائه، وتنصرف نفسه عما يبكيه إلى الإصغاء إليه؛ ولذا تعودت الأمهات والمرضعات والمربيات الغناء للأطفال منذ زمن قديم، بل إن الطيور والبهـائم تتأثر بحسن الصـوت والنغمـات الموزونة حتى قال الغزالي : « من لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال، بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور وجميع البهائم، إذ الجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثرًا يستخف معه الأحمال الثقيلة، ويستقصر - لقوة نشاطه في سماعه- المسافات الطويلة، وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه. فتري الإبل إذا سمعت الحادي تمد أعناقها، وتصغي إليه ناصبة آذانها، وتسرع في سيرها، حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها »( الإحياء). 
ومما سبق يتضح لنا أن الغناء لا يحرم إلا إذا اشتمل على كلمات تخالف الشرع، ويباح عندئذ، ويستحب إذا اشتمل على الثناء على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم والإسلام، وللحماسة وحب الأوطان، والله تعالى أعلى وأعلم.

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات: